الوهم والحقيقة – الجزء الرابع "أزمة الهوية وما يجعلنا آدميين"

الوهم والحقيقة – الجزء الرابع "أزمة الهوية وما يجعلنا آدميين"

في سنة 1982 حصلت صدفة سينمائية غريبة، حيث قام اثنان من المخرجين، "جون كاربنتر" و"ريدلي سكوت"، وكانا في بداية شهرتهما بعد أن قدما فيلمين رعب أحدثا ضجة كبيرة ("Halloween" و"Alien")، بعرض فيلمين جديدين في نفس الأسبوع في السينما، وربما في نفس اليوم. وكان كل منهما يرى أن فيلمه يحتوي على كل ما يمكن تقديمه، وسيحقق نجاحًا كاسحًا.

لكن الفيلمين فشلا نقديًا وجماهيريًا، وتعرضا لهجوم عنيف من النقاد والجمهور الذين رأوا فيهما مزيجًا من القبح والغباء والتخلف. بعدها تقاعد المخرجان شبه كليًا لفترة، إلى أن أعيد تقييم الفيلمين في التسعينات، ليكتشف الجمهور والنقاد أنهما كانا سابقين لعصرهما. ومنذ ذلك الحين، أصبح فيلم "جون كاربنتر" يُعتبر من أعظم أفلام الرعب في التاريخ، أما فيلم "ريدلي سكوت" فأحيا أفلام النيو-نوار، وأسّس نوعًا جديدًا في الميديا اسمه "السايبربانك"، ما أثّر على عدد ضخم من ألعاب الفيديو، والمسلسلات، والأفلام حتى اليوم.

الفيلمان هما The Thing لـ جون كاربنتر، و Blade Runner لـ ريدلي سكوت.

ولو سألنا: لماذا فشلا وتعرضا لهذا الهجوم الشديد؟ فهناك أسباب عدة، منها أن تلك الفترة كانت تشهد كسادًا اقتصاديًا، وكان الجمهور يبحث عن أفلام مسلية تخفف من كآبته، لا أن تزيدها. كلا الفيلمين كانا كئيبين، مظلمين، غير مريحين نفسيًا، بعكس المزاج العام. أضف إلى ذلك أن فيلم E.T. كان يُعرض وقتها ويتصدر شباك التذاكر، حاصدًا حب الجماهير والنقاد.

لكن هناك سببًا آخر مهمًا: الفيلمان يناقشان قضية شائكة ومستفزة للإنسان، وهي قضية الهوية والغاية: من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟

(القادم يحتوي على حرق لأحداث فيلمين: The Thing و Blade Runner)

في Blade Runner، تقع الأحداث في عالم مستقبلي متقدم جدًا من الناحية التكنولوجية، لدرجة أن البشر صنعوا نسخًا بيولوجية تشبههم تمامًا، تُسمى "ريبليكانت". لكن المجتمع في الوقت نفسه محطم. التكنولوجيا متطورة، لكن البشر يعيشون في أحياء فقيرة، والجريمة مرتفعة. الريبليكانت، باعتبارهم ليسوا بشرا، ليس لهم حقوق، ويُعتبرون عبيدًا، وأعمارهم قصيرة تنتهي بموعد محدد. وإذا تمردوا، فإن وحدة خاصة من الشرطة تُدعى Blade Runners تتولى ملاحقتهم وقتلهم.

البطل هو ريك ديكارد، أحد أفراد هذه الوحدة، ومهمته أن يقتل أربعة ريبليكانت هربوا من محطة على المريخ. لكنه مع أول مهمة له يلاحظ أن الريبليكانت أصبحوا أكثر إنسانية، ويقع في حب راشيل، سكرتيرة رئيس الشركة المصنعة، ويكتشف لاحقًا أنها ريبليكانت متطورة، وهي نفسها لم تكن تعرف ذلك. عندما تهرب وتختبئ عنده، يُطلب منه قتلها لكنه يرفض.

الريبليكانت الهاربون أرادوا فقط أن يعيشوا بحرية وأن يُمدّ عمرهم، لكن ذلك كان مستحيلًا علميًا. في المعركة النهائية بين زعيمهم روى وديكارد، يتمكن روى من التغلب عليه لكنه ينقذه ويموت في النهاية. يقرر ديكارد بعدها الهروب مع راشيل. لكن قبل رحيله، يترك له المفتش الذي فوقه مجسم وحيد قرن، والذي كان يظهر لديكارد في أحلامه دائمًا، في تلميح قوي أن ديكارد نفسه ريبليكانت.

من نحن؟ وما الذي يجعلنا بشرا؟
ديكارد يمر برحلة يكتشف فيها أن ما يُعرّف الإنسان ليس أصوله، بل مشاعره، ووعيه، وقدرته على الحب والاختيار. الريبليكانت سَعَوا إلى حريتهم، بينما ترك البشر الحقيقيون حرياتهم واستسلموا لنظام محطم. حتى في النهاية، كان روى أكثر إنسانية في موته من البشر أنفسهم.

فهل أصولك هي ما يحدد هويتك؟ أم أن الموضوع هو فعل واعٍ واختيار؟

في The Thing، تدور الأحداث في محطة أبحاث في القطب الجنوبي. يكتشف أفراد المحطة جثة كائن فضائي من محطة نرويجية قريبة، لكنه لا يكون ميتًا كليًا. الكائن يمتلك قدرة مرعبة: يمكنه أن يمتص أي كائن حي ويستنسخه بدقة متناهية، حاملاً كل صفاته وذكرياته، لكنه يصبح نسخة مشوهة هدفها الوحيد الانتشار والسيطرة.

على مدار الفيلم، لا يعرف أحد من لا يزال إنسانًا ومن أصبح جزءًا من الكائن. وعندما يُكتشف أحدهم، يتحول ويقتل من حوله. في النهاية، لا نعرف حتى ما إذا تم القضاء على الكائن أم لا. هذا الجو من الشك والقلق والارتياب ينعكس على المشاهد. فالبشر يحتاجون إلى حقائق واضحة عن هويتهم وهويات من حولهم، لتحديد مناطق الأمان والخطر. وإن لم يستطيعوا، يدخلون في حالة بارانويا شديدة. فماذا لو اكتشفت أن كل ما كنت تعتقده عن نفسك والآخرين كان كذبة، وأن الحقيقة والوهم أصبحا شيئًا واحدًا لا يمكنك التمييز بينهما؟

لكن في النصف الثاني من الفيلم، يظهر ماكريدي كبطل حقيقي، بثقته في نفسه، وابتكاره وسيلة لاكتشاف الكائن، ثم جمع من بقي من الناجين لمحاربته، حتى وإن كان الثمن حياته.

من يعرف نفسه، يعرف من حوله.

هذا ليس خيالًا علميًا تمامًا. فليس الكائن فقط هو من يستنسخك، بل في حياتنا يمكن أن تبتلعك أفكار أو جماعات أو أيديولوجيات، تخرج بعدها نسخة منك مشابهة لك شكليًا، لكن بطبيعة مشوهة وغاية مختلفة قد تؤذي من حولك، ويصبح الأمان بالنسبة لهم هو الابتعاد عنك وفقدان الثقة بك.

الفيلمان يطرحان أسئلة وجودية حول الهوية والغاية. في كلاهما هناك شخصيات تشبهنا لكنها ليست نحن. في (1)، المجتمع رفضهم لأصولهم رغم محاولاتهم نيل أبسط حقوقهم. أما في (2)، فكانوا وحوشًا يصعب تمييزهم، هدفهم تدمير الحياة إن لم تُصبح كل الكائنات مثلهم. في الحالتين، اختلط الوهم بالحقيقة، ولم تعد هناك خطوط واضحة، إلى أن وصل كل بطل لمرحلة إدراك الذات والتمييز بين الخطأ والصواب، واتخاذ القرار الصعب الصحيح.

اعرف هويتك، وحدد غايتك، واحمِ نفسك من الوهم والاستقطاب

العودة إلى المدونة

اترك تعليقا