ملكوت طفلة الرب : سيرة آنا الكوني بلسان الصمت - إبراهيم الكوني
ملكوت طفلة الرب : سيرة آنا الكوني بلسان الصمت - إبراهيم الكوني
في طريق العودة قرر الكاهن أن يعرّج بي على أهل الواحة ليريني المصير الذي آلى إليه القوم يوم خافوا الوصية فباعوا الحرية مقابل الركون إلى الاستقرار. وقف بي على شعفة جبل يطل على حضيض الواحة وخاطبني قائلاً: "انظري! هؤلاء الأغيار الذين ترينهم كانوا يوماً أحراراً. كانوا يوماً أخياراً مثلهم مثل من رأيت في الصحراء. ولكنهم تنكروا للصحراء، تنكروا لناموس الصحراء يوم نزلوا إلى الواحة ليعتنقوا شريعة الاستقرار. ها أنت ترينهم أمواتاً يدفنون أمواتاً بعد أن كانوا أحياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون!". صدق الكاهن في رؤياه. صدق لأني رأيتهم أشقياء حقاً. لم يكنوا أشقياء فحسب، ولكنهم أموات بالفعل. جثث خاوية تنازع جثثاً أخرى للفوز بسقط المتاع الذي لا يسمن من جوع ولا يغني من خوف. رأيتهم يكيدون ويتنابزون ويتقاتلون. رأيت إنساناً يطعن أمه الأرض ليستخرج من جوفها دماً يسميه ماء. والأغرب من كل شيء أنه يفعل ذلك لا إرواءً لظمأ أو لقضاء حاجة، ولكن من باب التسلية. لا يكتفي بارتكاب هذه الحرية البشعة، ولكنه لا يحقق دم الأم ولا يضمد جراحها، بل يتركها تنزف وتنزف وتنزف حتى ترتوي الأرجاء كلها بدمها. تروي الأم بدمها الأرجاء هدراً. تروي الأم الأركان بنزيفها دون أن يهبّ لنجدتها مخلوق من مخلوقات كانت بالأمس ظمأى إلى القطرة الواحدة. لكنهم نسوا حقيقة القطرة التي عبدوها بالأمس وتفنوا بربوبيتها وقالوا في سموها ملاحم المديح لأنها أنقذتهم من هلاك يوماً. رأيت أيضاً الأخ مسكوناً بالشر يترصد أخاه في الرحم والدم ليقتله في سبيل الاستيلاء على شبر أرض. رأيت امرأة تدسّ السموم في الطعام لبعلها وأبّ صغارها لأنه لم يشتر لها من السوق زينة من معدن الذهب اللعين للتباهى بها أمام جاراتها في حفل زفاف قريبتها. رأيت الابن يتآمر لدفن أبيه حيّاً انتقاماً لأنه رفض أن يهبه ثروته لكي يحقق بها صفقة مشبوهة. رأيت.. رأيت ورأيت ويا ليتني لم ار من ذلك المنكر شيئاً. رأيت واستشعرت الندم لأني رأيت، أشحت بوجهي وبدأت أتقيأ...".
يمضي الكوني في استرسالاته الرمزية، فاتحاً من خلال ذلك آفاقاً رحبة للانطلاق ضمن عوالم فلسفية هي هدفه، وهي لغته الأثيرة والتي تتيح له البوح بكل هواجسه، بكل انتقاداته لعالم أصبح مسرحاً؛ العبثية عنوانه، والأنانية ديدنه، والطمع هدفه ومبتغاه.