الوهم والحقيقة: تأثير المنظور الشخصي والمرض النفسي على الواقع في السينما

الوهم والحقيقة - الجزء الأول


"المنظور الشخصي والمرض النفسي وتأثيرهما على الواقع"

لكل إنسان في الدنيا منظور شخصي للحياة والواقع، متأثر بتربيته وقناعاته وأحاسيسه وكل ما يؤمن به... وأيضًا بأمراضه النفسية. هذا المنظور يشكّل رؤيته للواقع والحياة والمجتمع من حوله، ومهما تحدّثنا عن أن الحقيقة والواقع موجودان أصلًا بشكل مستقل، فإن الإنسان في النهاية لا يستطيع رؤية العالم إلا من خلال عدسات منظوره الخاص وأمراضه النفسية.

هذا الموضوع يُعدّ مادة خصبة في صناعة السينما، حيث يمنح المخرجين مساحة للسرد واللعب والتأثير على المشاهد. نظرًا لأنه يحتوي على أبعاد ومستويات متعدّدة، يمكن للمخرج أو المؤلف أن يروي حكاية ممتعة باستخدام منظور شخصي مشوّه بشكل بسيط أو عبر شخصية مشوّهة نفسيًا لأقصى درجة.

تحذير: الفقرات القادمة تحتوي على حرق لأحداث فيلمين

Little Miss Sunshine / Shutter Island

في فيلم *Little Miss Sunshine*، ثلاثة من الأبطال لديهم مشاكل في منظورهم للحياة:

- الأب يعمل كمتحدث تحفيزي، ويؤمن بنظرية عن النجاح والفشل كتبها في كتاب ويحاول نشره لتحقيق الشهرة والمال. يعتقد أن الناس إمّا ناجحون أو فاشلون، ويجب السعي نحو النجاح وفق خطواته العشرة. لكنه غير قادر على رؤية الحقيقة الأوضح: أنه هو نفسه فاشل في عمله وأسرته وأفكاره.
- الابن مراهق غاضب قرأ فقط لنيتشه، وقرر أنه يكره البشر، وأخذ عهدًا بعدم التحدث حتى يصبح طيّارًا. تبنّى منظورًا مغلقًا وأصبح غير قادر على رؤية أي شيء خارجه. اللافت أن الأب كان يرى هذه التصرفات "المدمّرة ذاتيًا" كدليل على النجاح، رغم شعوره بعدم الارتياح تجاهها.
- الخال كان ناجحًا في عمله، لكنه مرّ بأزمات مهنية وعاطفية جعلته يفقد كل شيء، مما أدخله في اكتئاب حاد دفعه لمحاولة الانتحار.

مع تقدم الفيلم، يصطدم منظور كل شخصية بالواقع:
- الأب يكتشف أن كتابه سيئ وأفكاره ضعيفة ولن يتم نشره.
- الابن يُصدم عندما يعرف أنه مصاب بعمى الألوان، مما يجعله غير مؤهل ليصبح طيارًا.
- الخال يحاول تجاوز الاكتئاب لكنه ينتكس عندما يرى حبيبته السابقة مع منافسه المهني.

في النهاية، الانتصار الحقيقي يحدث عندما تتقبل الأسرة بعضها البعض بكل عيوبهم، ويدركون أن وجودهم معًا أهم من أي نظريات حول النجاح والفشل. المشهد الختامي يجسّد هذه الفكرة بقوة، حيث تكون الأسرة هي الحقيقة، والمنظور المشوّه هو الوهم.

على النقيض، في *Shutter Island*، يبدأ الفيلم كقصة تشويق/رعب تقليدية عن محقق يبحث عن مريضة نفسية مفقودة في جزيرة مخصصة لعلاج أخطر المرضى النفسيين. خلال الأحداث، يكتشف أن هناك تجارب سرية تُجرى في الجزيرة، وأنه جاء إلى الجزيرة للبحث عن قاتل زوجته.

لكن الصدمة الكبرى تأتي في نهاية الفيلم: لا توجد قضية، ولا مؤامرة، وكل ما حدث كان مسرحية موجهة له. الحقيقة أنه هو نفسه المريض، ولا يوجد قاتل آخر، لأنه هو من قتل زوجته بعد أن أقدمت على قتل أطفاله.

البطل هنا لا يعاني فقط من منظور مشوّه، بل يعيش بالكامل في واقع زائف خلقه لنفسه هربًا من الحقيقة المروّعة. الأطباء حاولوا علاجه بجعله يخوض المسرحية حتى يواجه الحقيقة بنفسه، لأن الإنسان لا يقتنع بمجرد الكلام، بل عليه أن يخوض التجربة ليصل إلى الحقيقة.

لكن النهاية تأتي بلمسة سكورسيزي الخاصة: البطل ينتكس، ويرفض مغادرة وهمه، ليكون الحل الوحيد هو إجراء عملية "لوبوتومي" له، مما يعني موته إكلينيكيًا. وهنا يطرح البطل سؤاله المؤثر: "ما هو الأسوأ... أن تعيش كوحش، أم أن تموت كرجل صالح؟"، ما يوحي بأنه قد يكون أدرك الحقيقة لكنه فضّل الموت على العيش مع ذنب قتل أسرته.

الحقيقة هنا كانت جحيمًا لا يمكن تحمله، ولم تكن بديلاً للوهم، بل كانت مساوية للموت.

الفيلمان على طرفي نقيض: في *Little Miss Sunshine*، الوهم خفيف، بينما يبلغ ذروته في *Shutter Island*. في الأول، نرى الأحداث من منظور الواقع، بينما في الثاني نراها من منظور البطل، لنُصدم معه بالحقيقة. أيضًا، العلاقة بين الواقع/الوهم والحياة/الموت معكوسة بين الفيلمين. لكن هناك نقطة واحدة تربط بينهما: الأسرة.

في *Little Miss Sunshine*، وجود الأسرة حرر الأبطال، بينما في *Shutter Island*، غيابها دمّر البطل.


بقلم : بولا ناجي

Back to blog

Leave a comment