الوهم والحقيقة الجزء الثاني: الوحدة وأثرها على نفسية واستيعاب الفرد
Share
"الوحدة بتقتلني ومحدش بيسألني انت عامل إيه؟" كلمات قد تبدو غريبة من أغنية قديمة لتامر حسني، لكنها تصلح لأن تكون شعارًا لموضوعنا اليوم. في المقال السابق، تحدثنا عن دور الأسرة في تشكيل شخصية الأفراد، وكيف أن وجودها كان عنصرًا أساسيًا في بناء أبطالنا، بينما أدى غيابها إلى تدمير حياة أحدهم. هذا يقودنا إلى مفهوم أعمق: الوحدة.
وجود الإنسان في بيئة محاطة بأشخاص يحبهم ويحبونه، ويتفاعل معهم باستمرار، يجعله أكثر اتصالًا بالواقع، وأكثر قدرة على تقييم الأمور بمنظور متزن. لكن بمجرد غياب هذا التفاعل، تفرض الوحدة سيطرتها على أفكاره، فتُضعف نفسيته، وتشوه نظرته للحياة، وقد تصل به إلى حد الانفصال عن الواقع تمامًا، لدرجة تجعله يرى عالمًا مغايرًا للحقيقة.
الوحدة في السينما: رؤية مارتن سكورسيزي
عندما نتحدث عن الوحدة والسينما، لا بد أن نتطرق إلى أعمال مارتن سكورسيزي في السبعينات والثمانينات، حيث كانت الوحدة محورًا أساسيًا في أفلامه، حتى في فيلمه عن السيد المسيح. لكننا سنركز هنا على فيلمين تحديدًا، شوهت فيهما الوحدة رؤية الأبطال للواقع والحقيقة:
تحذير: تحتوي الفقرات التالية على حرق لأحداث فيلمين:
Taxi Driver / King of Comedy

Taxi Driver: الوحدة كطريق للعنف
في هذا الفيلم، نتابع قصة ترافيس بيكل، الجندي العائد من حرب فيتنام، الذي لا يمتلك أي مواهب أو أصدقاء أو حتى قدرة على التواصل مع الآخرين. يعود إلى بلاده محملًا بجراحه البدنية والنفسية، ويعاني من الأرق المستمر. ينصحه الطبيب بزيارة دور السينما الإباحية، لكنه يختار أن يعمل سائق تاكسي، ليواجه مجتمعًا يراه فاسدًا ومنحطًا.
ترافيس يحاول الاندماج عندما يلتقي بفتاة تعجبه، لكنه يفشل فشلًا ذريعًا، مما يزيد من إحساسه بالعزلة. لاحقًا، يتعرف على إيريس، فتاة في الثالثة عشرة من عمرها تعمل في الدعارة قسرًا، وهنا تتغير رؤيته للعالم، فيقرر أنه الوحيد القادر على "إنقاذ" نيويورك من الفساد.
يبدأ ترافيس رحلة التحول، فيشتري الأسلحة ويخطط لاغتيال مرشح رئاسي تعمل حبيبته السابقة في حملته، لكنه يفشل. عندها، يوجه غضبه نحو بيت الدعارة الذي تعمل فيه إيريس، فيهجم عليه، يقتل القائمين عليه، وينقذها. رغم التناقض بين العمليتين، فإن ترافيس يرى في كل منهما محاولة لإنقاذ المجتمع.
يرى البعض أن الفيلم يناقش الذكورية السامة، لكنه في الحقيقة يعكس التأثير المدمر للوحدة على الفرد، وكيف يمكن أن تحوله من شخص مسالم إلى إرهابي متناقض يبحث عن التقدير بأي ثمن. طوال الفيلم، نسمع أفكار ترافيس عبر الفويس أوفر، لأنه ببساطة لا يملك أحدًا ليتحدث إليه. وعندما قرر أن يصبح بطلًا، لم يجد نموذجًا سوى أبطال أفلام الويسترن، تمامًا كما يفعل المراهقون المنعزلون الذين يبنون هويتهم على شخصيات الأفلام والرسوم المتحركة.
عزلة ترافيس جعلته يرى كل من حوله فاسدين، رغم أنهم لا يختلفون عنه كثيرًا، ما حوله إلى متطرف يبحث عن إثبات ذاته بأي شكل. هذا التناقض ليس خياليًا؛ ففي الواقع، هناك أمثلة حقيقية، مثل "ريان روث" الذي حاول اغتيال دونالد ترامب، وعندما فتشوا منزله، وجدوا أنه كان يخطط أيضًا لاغتيال جو بايدن، رغم اختلاف التوجهات السياسية بينهما. من منظور الشخص الوحيد، كل شيء فاسد، ولا فرق بين طرف وآخر.
الفقر والوحدة يدفعان الإنسان إلى حافة الجنون.
King of Comedy: الهوس بالشهرة كبديل للوهم
في الفيلم الثاني، نتعرف على روبرت بابكن، الذي، مثل ترافيس، يعاني الوحدة، لكنه ليس عنيفًا. روبرت مهووس بالشهرة، ويحلم بأن يصبح مقدم برامج كوميدي، لكنه لا يسعى لتحسين موهبته أو تطوير نفسه. بدلاً من ذلك، يقضي يومه بالكامل في غرفته، يتخيل نفسه نجمًا محبوبًا يشكره الجميع على نجاحه العظيم.
عندما يخرج من عالم خياله، يطارد نجمه المفضل في محاولة يائسة للحصول على فرصة للظهور في برنامجه، حتى أنه يقتحم منزله. وعندما تفشل كل محاولاته، يلجأ إلى الاختطاف، مجبرًا البرنامج على استضافته. مبررًا فعلته بمقولته الشهيرة: "كان الأفضل أن أكون ملكًا ليوم واحد، على أن أكون حثالة طيلة حياتي."
وحدة روبرت الشديدة ولدت داخله هوسًا بالشهرة. لم يكن هدفه أن يصبح كوميديان أو مذيعًا ناجحًا، بل كان يريد فقط أن يكون مشهورًا، لأن الشهرة بالنسبة له كانت الحل الوحيد لعزلته.
ورغم أن الفيلم أُنتج في الثمانينات، إلا أنه يعكس بدقة هوس الشهرة الذي نراه اليوم مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نرى أشخاصًا يسعون للظهور ليس لعرض فكرة أو موهبة، بل لمجرد الشهرة وجني المال، تمامًا كما فعل روبرت.
الوحدة: من الواقع إلى الوهم
كلا البطلين، ترافيس وروبرت – اللذين جسدهما ببراعة روبرت دي نيرو – عاشا في أوهام خلقوها لأنفسهم.
ترافيس رأى الجميع فاسدين ومجرمين، رغم أن ذلك لم يكن حقيقيًا، لكن وحدته جعلت عقله يتلاعب به. أما روبرت، فكان غارقًا في أحلام اليقظة، مقتنعًا بأنه نجم كبير، بينما الحقيقة أنه مجرد شخص موهوم. بل إن أمه، التي نسمع صوتها طوال الفيلم دون أن نراها، نكتشف لاحقًا أنها ماتت عندما كان صغيرًا، ما يعني أنه كان يتحدث مع نفسه طوال الوقت.
بقلم : بولا ناجي