الوهم والحقيقة الجزء الثالث - المجتمع والصراع الدائم مع الفردانية

الوهم والحقيقة الجزء الثالث - المجتمع والصراع الدائم مع الفردانية

لقد قلنا إن الوحدة كانت سببًا في تدمير الأفراد ودفعهم نحو العنف والهوس والوهم، ولكن من أين جاءت الوحدة أصلًا؟ لم تكن الوحدة اختيارًا حرًا لأبطالنا، وفي العموم، لا أحد يختار الوحدة والعزلة الدائمة بإرادته. إن الوحدة تنشأ نتيجة عدم توافق الفرد مع المجتمع.

منذ فجر التاريخ وحتى آخر يوم في حياة البشر، سيظل هناك صراع دائم بين المجتمع والفرد؛ نزعة الفرد للتحرر الكامل في مواجهة نزعة الجماعة للانتماء والبقاء. هذا الصراع ليس مسألة صواب أو خطأ، أو خير وشر، فغالبًا ما يكون الفرد محقًا في مواجهة مجتمع جاهل أو نظام فاسد، كما قد يكون المجتمع على حق في مواجهة فرد متطرف أو إرهابي أو مختل.

Taxi Driver على سبيل المثال، لم يكن "ترافيس" في فيلم 

 قادرًا على التواصل مع الآخرين، وكانت قناعاته على خلاف مع توجهات مجتمعه، مما أدى إلى عزله من قِبَل المجتمع. ومن منظور الفيلم، لم يكن الخطأ في زملائه أو الفتاتين أو حتى في نيويورك، بل كان الخطأ في ترافيس نفسه. ومع ذلك، هناك أفلام أخرى تناولت هذا الصراع من زوايا مختلفة.

تحذير: الفقرة تحتوي على حرق لأحداث فيلمين

 Fight Club – The Matrix

 

 

 

 

 

 

 

 

Fight Club في 

، البطل هو الراوي، شخص وحيد بلا أسرة أو أصدقاء، يكره عمله الذي يفرض عليه حياة من التنقل الدائم بلا هدف أو معنى. لا يملك في حياته سوى نزعة استهلاكية تدفعه إلى شراء أشياء بلا قيمة حقيقية، على أمل أن تمنحه الإحساس بالأهمية

Taxi Driver وكما هو الحال مع ترافيس في 

، يعاني الراوي من الأرق. تتغير حياته تمامًا عندما يلتقي بـ تايلر ديردن، الذي يمثل النقيض التام له؛ فهو شخص متحرر، واثق من نفسه، يعمل لحسابه الخاص، ويزاول وظائف متفرقة في المطاعم ودور السينما حيث يستغلها لأعمال التخريب. يرفض تمامًا النزعة الاستهلاكية، ويعيش في منزل أشبه بالمباني المهجورة، وعندما يحتاج إلى شيء، يصنعه بنفسه دون انتظار إذن أو قبول من أحد. القاسم المشترك بينهما هو الوحدة وغياب أي دائرة اجتماعية.

الراوي وتايلر يشنّان ثورة على المجتمع بطريقتهما الخاصة من خلال تأسيس نادي القتال، وهو مكان يجد فيه الرجال الحرية الكاملة ليكونوا على طبيعتهم، دون قيود المجتمع أو العادات أو الشكل الحديث للحياة. يجذب النادي عددًا كبيرًا من الرجال الذين، مثل الراوي، يشعرون بالقهر ويفتقدون المعنى والهدف في حياتهم.

يتطور الأمر لاحقًا إلى تنظيم إرهابي يسعى لتدمير النظام الاقتصادي الاستهلاكي الحديث، إلى أن يكتشف الراوي الحقيقة الصادمة: لا وجود لتايلر ديردن، بل هما في الواقع شخصية واحدة. فهو مصاب باضطراب الهوية، إذ لم تستطع نفسيته تحمل الضغط، فخلقت شخصية متمردة نقيضة له تمامًا.

وجهة نظر الفيلم تطرح المشكلة باعتبارها صراعًا مشتركًا بين الفرد والمجتمع. الراوي، بطل القصة، ضحية للمجتمع الحديث بقواعده الاستهلاكية ورتمه السريع الذي لا يمنح فرصة للحياة الحقيقية، ويرفض أي هدف أو رغبة خارج حدود المسموح به. ومع ذلك، فهو في الوقت ذاته شخصية جبانة وضعيفة، خائف من المواجهة وغير قادر على التصدي لمشكلاته، فيبحث عن مسكنات بدلًا من حلول حقيقية. ولهذا، تتشوه رؤيته للحقيقة بالكامل، مما يدفعه إلى خلق حياة بديلة وشخصية أخرى قادرة على التمرد والمواجهة.

لكن الوهم لم يكن الحل، والدليل على ذلك أن تايلر ديردن، الشخصية الثانية التي كان من المفترض أن تكون الحل، يتحول إلى نسخة مصغرة من المجتمع القهري الذي يعاني منه الراوي. تايلر يؤسس تنظيمًا يأمر أعضاؤه بنسيان أسمائهم، وارتداء زي موحد، والتصرف كجنود يكرسون حياتهم "للمهمة". في النهاية، يحولهم إلى عبيد، تمامًا كما كانوا عبيدًا للمجتمع وقوانينه، لكن الفرق أنه منحهم هدفًا.

صدر فيلم Fight Club عام 1999،

 وما زالت المشكلة التي يطرحها قائمة حتى اليوم. طالما أن المجتمع يهدف إلى خلق أفراد بلا هوية أو هدف، يعيشون فقط للعمل والنوم، ويكررون روتينهم اليومي لخدمة نظام استهلاكي يساويهم بأرصدتهم البنكية، فمن الطبيعي أن يتم استقطاب هؤلاء الأفراد لاحقًا إلى تنظيمات إرهابية أو عدوانية، والتي لن تقدم لهم سوى الإحساس بالهدف لا أكثر. وفي المقابل، فإن كل فرد مسؤول عن حياته، ولا يمكنه السماح للآخرين بتحديد كيف يعيش وماذا يفعل.

المسؤولية مشتركة، وإذا لم يقاوم الفرد ولم يتغير المجتمع، فلن تكون النتيجة سوى الانهيار.

في The Matrix،

بطلنا هو توماس أندرسون، المعروف باسم نيو. في العلن، هو موظف عادي في شركة محترمة، يعيش حياة تقليدية مثل الجميع، لكن في الخفاء، هو نيو، الهاكر الذي يطارده شعور قاتل بأن هناك خطأ ما حوله، ويحاول كشف الحقيقة. من هنا، يتعرف على مورفيوس، الذي تصفه السلطات بأنه أخطر إرهابي في تاريخ البشرية. ومن خلاله، يكتشف نيو الحقيقة: أنهم جميعًا يعيشون داخل الماتريكس.

الماتريكس هو عالم افتراضي، وكل ما فيه ليس حقيقيًا. في الواقع، البشر مجرد عبيد للنظام الحاكم، المكون من الآلات التي تحتاج إليهم في حالة من السكون، لتستخدمهم كمصدر للطاقة. يتحقق هذا السكون من خلال إبقاء البشر داخل حلم الحياة اليومية الروتينية. والذين يحافظون على استقرار هذا النظام هم العملاء، وهم مجموعة من البرامج الرقمية التي تتخذ شكل بشر، وتمتلك قدرات تتفوق على البشر لأنها جزء من الماتريكس نفسه.

هدف مورفيوس وجماعته هو تحرير البشر من سيطرة الآلات، وتحقيق ذلك يتطلب تدخل نيو، لأنه "المختار"—الشخص الوحيد القادر على رؤية الماتريكس على حقيقتها كَوَهْم مصطنع. وبفضل هذه القدرة، يستطيع اختراق النظام وكسر قواعده تمامًا.

يتجسد النظام في شخصية العميل سميث، الذي، رغم كونه مجرد برنامج، يطور كراهية عميقة للبشر. عقيدته تستند إلى فلسفة اليوجينيا في القرن التاسع عشر، التي كانت ترى الأجناس غير القوقازية أقل شأنًا. من وجهة نظره، البشر ليسوا سوى كائنات فيروسية، لا تفعل شيئًا سوى التكاثر والتدمير. لا يملك حواسًا بشرية، لكنه يعبّر عن اشمئزازه من "رائحتهم". في حين تسعى الآلات إلى إبقاء البشر في وهم الماتريكس لتستخدمهم كمصدر طاقة، فإن سميث يريد إبادتهم جميعًا أو على الأقل إخراجهم من الماتريكس بالكامل. إنه التجسيد الكامل لعنصرية النظام الحاكم ضد الأفراد الذين يعتمد عليهم أساسًا.

إذا تغاضينا عن الجانب الخيالي للفيلم، فإن رسالته تتلخص في شرح مورفيوس لطبيعة الماتريكس:
"الماتريكس هو النظام، وهو العدو. في داخله، ترى معلمين ومحامين ورجال أعمال... هؤلاء هم عقول البشر التي نحاول تحريرها، لكن حتى يتحرروا، يظلون جزءًا من النظام، مما يجعلهم أعداء لنا. معظم الناس ليسوا مستعدين للتحرر، وكثير منهم مرتبطون بالنظام إلى درجة أنهم سيحاربون لحمايته."

في The Matrix

، المشكلة تكمن بالكامل في النظام، الذي ليس سوى وهم ضخم خلقته السلطة الحاكمة، وربطت به جميع البشر إلى أن أصبح واقعهم الوحيد. والحل لا يكون إلا بالمقاومة، من خلال الشخص القادر على رؤية الحقيقة خارج كل الأوهام.

بالمناسبة، جماعة مورفيوس هي نسخة طبق الأصل من جماعة تايلر ديردن. كلاهما يتكون من أفراد مقهورين سابقًا، اكتشفوا "الحقيقة"، فتم استقطابهم إلى التنظيم وتسليحهم بهدف تحرير الآخرين، ومحاربة النظام القديم، وإقامة نظام جديد على صورتهم، بغض النظر عن الخسائر البشرية التي قد تترتب على هذه الحرب. ولكن، هل التنظيم هو الحقيقة؟

هل جماعة نادي القتال، التي تقوم على فقدان الهوية والحرية، وتعتمد بالكامل على فرد هو في الأساس انعكاس لمرض نفسي، قادرة على رؤية الحقيقة بشكل أوضح من المجتمع؟ وهل جماعة مورفيوس، التي لا تمانع في إبادة ثلاثة أرباع من البشر الذين تزعم أنها تريد تحريرهم، حتى يعيش الربع المتبقي في "حقيقة" مليئة بالدمار والجوع والخراب، أفضل من النظام الذي يحتجز الناس داخل الوهم لكنه على الأقل يوفر لهم الأمان؟

في النهاية، الخيار لك، لكن تذكر أنك وحدك المسؤول بالكامل عن اختيارك.

بقلم : بولا ناجي

العودة إلى المدونة

اترك تعليقا